فصل: فصل في أسرار ترتيب السورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الإعراب:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ} {قل} فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة {أعوذ} مقول القول و{أعوذ} فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا و{برب الفلق} متعلقان بـ: {أعوذ} و{من شر} متعلقان بـ: {أعوذ} و{ما} اسم موصول مضاف إليه وجملة {خلق} صلة والعائد محذوف أي خلقه ويجوز أن تكون مصدرية.
{وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ} عطف على ما تقدم و{إذا} ظرف لمجرد الظرفية وجملة {وقب} في محل جر بإضافة الظرف إليها.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ} عطف على ما تقدم أيضا و{في العقد} متعلقان بـ: {النفاثات}.
{وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ} عطف على ما تقدم وإعرابه ظاهر.

.الفوائد:

عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه للتعميم والتخصيص، فكل نفاثة شريرة أما الحسد فمنه المحمود ومنه المذموم، قال صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين وقال أبو تمام:
إن العلا حسن في مثلها الحسد

وقال:
وما حاسد في المكرمات بحاسد

اهـ.

.قال أبو البقاء العكبري:

سورة الفلق:
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {من شر ما خلق} يجوز أن تكون (ما) بمعنى الذي والعائد محذوف، وأن تكون مصدرية، والخلق بمعنى المخلوق، وإن شئت كان على بابه: أي من شر خلقه: أي ابتداعه، وقرئ {من شر} بالتنوين: وما على هذا بدل من شر أو زائدة، ولا يجوز أن تكون نافية، لأن النافية لا يتقدم عليها ما في حيزها، فلذلك لم يجز أن يكون التقدير: ما خلق من شر ثم هو فاسد في المعنى، و(النفاثات) والنافثات بمعنى واحد، والله أعلم. اهـ.

.قال حميدان دعاس:

سورة الفلق:
بسم الله الرحمن الرحيم

.[سورة الفلق: آية 1]

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}
{قُلْ} أمر فاعله مستتر والجملة ابتدائية لا محل لها. {أَعُوذُ} مضارع فاعله مستتر {بِرَبِّ} متعلقان بالفعل {الْفَلَقِ} مضاف إليه والجملة مقول القول.

.[سورة الفلق: آية 2]

{مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2)}
{مِنْ شَرِّ} الجار والمجرور متعلقان بأعوذ (ما) اسم موصول مضاف إليه {خَلَقَ} ماض فاعله مستتر والجملة صلة.

.[سورة الفلق: آية 3]

{وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3)}
{وَمِنْ شَرِّ} معطوفان على ما قبلهما {غاسِقٍ} مضاف إليه (إذا) ظرف زمان {وَقَبَ} ماض فاعله مستتر والجملة في محل جر بالإضافة.

.[سورة الفلق: آية 4]

{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)}
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ} معطوف على ما قبله {فِي الْعُقَدِ} متعلقان بما قبلهما.

.[سورة الفلق: آية 5]

{وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)}
{وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ} معطوف على ما قبله (إذا) ظرف زمان {حَسَدَ} ماض فاعله مستتر والجملة في محل جر بالإضافة. اهـ.

.فصل في تخريج الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:

قال الزيلعي:
سورة الفلق ذكر فِيهَا أَرْبَعَة أَحَادِيث:
1566- الحَدِيث الأول:
فِي الحَدِيث لما رَأَى الشَّمْس قد وَقَبَتْ قال هَذَا حِين حلهَا يَعْنِي صَلَاة الْمغرب.
قلت رَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي كِتَابه غَرِيب الحَدِيث فَقال ثَنَا مُحَمَّد بن ربيعَة عَن عبد الله بن سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هِنْد عَن أَبِيه عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه لما رَأَى الشَّمْس قد وَقَبَتْ قال: {هَذَا حِين حلهَا} انْتَهَى ثمَّ قال قوله «وَقَبَتْ» أَي غَابَتْ وَاصل الوقوب الدُّخُول قال وَمِنْه قوله تعالى: {وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب} انْتَهَى.
وَالْمُصَنّف احْتج بِهِ عَلَى أَن وَقب بِمَعْنى غَابَ.
1567- الحَدِيث الثَّانِي:
عَن عَائِشَة قالت أَخذ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بيَدي فَأَشَارَ إِلَى الْقَمَر فَقال: «نَعُوذ بِاللَّه من شَرّ هَذَا إِنَّه الْغَاسِق إِذا وَقب».
قلت رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي كِتَابه فِي التَّفْسِير وَالنَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن خَاله الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نظر إِلَى الْقَمَر فَقال يَا عَائِشَة «اسْتَعِيذِي بِاللَّه من شَرّ هَذَا فَإِنَّهُ الْغَاسِق إِذا وَقب» انْتَهَى قال التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك وَقال صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ انْتَهَى.
وَرَوَاهُ احْمَد وَابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مسانيدهم.
وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن خَاله الْحَارِث بِهِ.
وَلَفظ النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير أَخذ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بيَدي وَقد طلع الْقَمَر فَقال…
1568- الحَدِيث الثَّالِث:
قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ» هَكَذَا فِي الْكتاب.
قلت فِيهِ أَحَادِيث:
رَوَى البُخَارِيّ وَمُسلم فِي فَضَائِل القرآن من حَدِيث سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقول «لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رجل آتَاهُ الله الْكتاب فَهُوَ يقوم بِهِ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار» انْتَهَى.
وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه وَزَاد فِيهِ «فَهُوَ ينْفق يَعْنِي الصَّدَقَة».
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُسْنده وَزَاد فِيهِ «فَيَقول الرجل لَو آتَانِي الله مثل مَا أُوتِيَ فلَان لفَعَلت مثل مَا يفعل».
حَدِيث آخر رَوَى البُخَارِيّ فِي كتاب الْعلم وَمُسلم فِي فَضَائِل القرآن من حَدِيث قيس بن أبي حَازِم عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رجل آتَاهُ الله مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكته فِي الْحق وَرجل آتَاهُ الله الْحِكْمَة فَهُوَ يقْضِي بهَا وَيعلمهَا» انْتَهَى.
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِاللَّفْظِ الأول وَزَاد فِيهِ «فَقال رجل لَيْتَني أُوتيت مثل مَا أُوتِيَ فلَان فَعمِلت مثل الَّذِي يعْمل» فَوضع الْحَسَد مَوضِع الْغِبْطَة.
وَلَا يُعَارض هَذَا بقوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فضل الله بِهِ بَعْضكُم عَلَى بعض} لأن الْآيَة نزلت فِي سَبَب خَاص رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث مُجَاهِد عَن أم سَلمَة قالت يَا رَسُول الله أيغزو الرِّجَال وَلَا نعزو وَلَا نُقَاتِل فَنُسْتَشْهَد وَإِنَّمَا لنا نصف الْمِيرَاث فَأنْزل الله الْآيَة ثمَّ قال صَحِيح إِن كَانَ مُجَاهِد سمع من أم سَلمَة انْتَهَى.
قال الْقُرْطُبِيّ فِي شرح مُسلم المُرَاد بِالْحَسَدِ فِي هَذَا الحَدِيث الْغِبْطَة وَقد نبه عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي التَّبْوِيب فَقال بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعلم وَالْحكمَة وَكَذَلِكَ قال النَّوَوِيّ لَا غِبْطَة أفضل مِنْهَا فِي هَاتين.
قال الْبَغَوِيّ فِي شرح السّنة وَقيل إِن فِيهِ إِبَاحَة لنَوْع من الْحَسَد كَمَا فِيهِ نوع إِبَاحَة من الْكَذِب فِي قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يحل الْكَذِب إِلَّا فِي ثَلَاث الرجل يكذب فِي الْحَرْب وَيصْلح بَين اثْنَيْنِ وَيحدث أَهله» انْتَهَى.
قال الْقُرْطُبِيّ وَمن الْحَسَد مَا يكون مَحْمُودًا مثل أَن يتَمَنَّى زَوَال النِّعْمَة عَن الْكَافِر وَعَمن يَسْتَعِين بهَا عَلَى الْمعاصِي وَكلهمْ اتَّفقُوا عَلَى تَفْسِير الْحَسَد تمني زَوَال النِّعْمَة عَن الْمَحْسُود إِلَى الْحَاسِد وَالْغِبْطَة أَن يتَمَنَّى لنَفسِهِ مثلهَا دون زَوَالهَا من أَخِيه فَقال الْقُرْطُبِيّ وَيُسمى أَيْضا مُنَافَسَة قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ}.
1569- الحَدِيث الرَّابِع:
عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ المعوذتين فَكَأَنَّمَا قرأ الْكتب الَّتِي أنزلهَا الله تعالى كلهَا».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث أبي عصمَة نوح بن أبي مَرْيَم عَن زيد الْعمي.
عَن أبي نَضرة عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي بن كَعْب عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ المعوذتين...» إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بسنديه فِي آل عمرَان، وَرَوَاهُ الواحدي فِي الْوَسِيط بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدّم فِي يُونُس. اهـ.

.فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

قال إلكيا هراسي:
سورة الفلق:
عن عقبة بن عامر قال: بينما أنا أسير مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء، إذ غشيتنا ريح شديدة مظلمة فجعل رسول اللّه يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس ويقول: «يا عقبة، تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما».
و{النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ}، الآية: 4: السواحر ينفثن على العليل، ويرقونه بكلام هو كفر وتعظيم للكوكب، ويطعمن العليل الأدوية الحارة الضارة والسموم القاتلة، ويحتلن في التوصل إلى ذلك، ويزعمن أن ذلك من رقاهن، ومن أردن نفعه نفثن عليه، وأوهمن أنهن نفعنه بذلك، وربما أضفن إلى ذلك بعض الأدوية النافعة.
وروت عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين، فإذا استعنتم فاغتسلوا».
وقال قوم من الفلاسفة: إن ضرر العين، إنما هو من جهة شيء ينفصل من العين ويتصل بالمعاين.
والحق في ذلك إذا اتفق ضرر فهو من فعل اللّه تعالى، وإنما يفعل ذلك عند إعجاب الإنسان بما يراه، تذكيرا له لأن لا يركن إلى الدنيا ولا يعجب بشيء منها.
وعن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «من رأى شيئا يعجبه فقال: بسم اللّه ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه لم يضره شيء».
تم الكتاب بحمد اللّه ومنه، وقد أتينا على جمل ما يحتاج إليه من أحكام الفقه اشتمل القرآن عليها، وأوضحنا قدر مقصودنا من اختلاف العلماء، وبيان أقرب الأقوال إلى معاني القرآن، ولم نغادر جهدا في تلخيص ما أردناه وحذف الحشو المستغنى عنه.
ونسأل اللّه تعالى أن يجعل سعينا مصروفا إلى ابتغاء مرضاته، وابتغاء الزلفى لديه، فإنه رؤوف رحيم بعباده، وصلّى اللّه على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلّم تسليما. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الفلق:
أعوذ بالله أي أحتمى به وأتحصن. والله عز وجل يجيب من سأله ويعيذ من استعاذ به. وقد نزلت السورتان الأخيرتان من المصحف الشريف تعلمنا كيف نتحصن بالله من شرور كثيرة، فإن الحياة حافلة بما يسوء.
قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}. وسورتا {قل أعوذ برب الفلق}. و{قل أعوذ برب الناس}. حصانات قوية لمن أراد اللياذ بالله والظفر بحمايته.. والفلق الصبح أو الضوء الذي يشق الظلام. ومصادر الشر كثيرة من جراثيم وزواحف وسباع وبشر! (والغاسق إذا وقب) الليل إذا دخل واشتدت ظلمته. ولا يزال الليل مسرحا للصوص والعهار ومغتالى الحقوق والحريات. و{النفاثات في العقد} قيل النساء السواحر! وللسحر حقيقة عند بعض العلماء، ولشياطين الإنس والجن شغل به، والاستعاذة تبطله. ويرى ابن حزم وعلماء الظاهر أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو خداع وتخييل. وللعامة أوهام كثيرة في هذا الميدان ينبغى الحذر منها. ومما يستعاذ بالله منه الحسد، وهو رذيلة تقوم على تمنى زوال النعم، وكره أصحابها والكيد لهم. والحسد من أشيع الجرائم بين الناس. حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالكل أعداء له وخصوم! وقد يطلق الحسد على العين! وهى نظرة مسمومة نحو مايكون من خير، ينسج الناس حولها حقائق وأباطيل. والاستعاذة على كل حال تعصم من الواقع والمتوقع، وتقى المؤمن شرور الآخرين. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الفلق والناس:
أقول: هاتان السورتان نزلنا معًا، كما في الدلائل للبيهقي فلذلك قُرتنا، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين، ومن الافتتاح بقل أعوذ، وعقب بهما سورة الإخلاص، لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات، وبالقوافل وقدمت الفلق على الناس- وإن كانت أقصر منها- لمناسبة مقطعها في الوزان لفواصل الإخلاص مع مقطع تبت وهذا آخر ما من الله به على من استخراج مناسبات ترتيب السور، وكله من مستنبطاتي، ولم أعثر فيه على شيء لغيري إلا النزر اليسير الذي صرحت بعزوى له، فلله الحمد على ما ألهم، والشكر على ما من به وأنعم، سبحانك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ثم رأيت الإمام فخر الدين ذكر في تفسيره كلامًا لطيفًا في مناسبات هذه السور، فقال في سورة الكوثر: اعلم أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها أما الأول، فلأنه تعالى جعل سورة الضحى في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وتفصيل أحواله، فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته {ما ودعكَ ربُكَ وما قلى وللآخرةُ خيرٌ لكَ من الأولى ولسوفَ يُعطيكَ رَبُكَ فترضى} ثم ختمها بثلاثة أحوال من أحواله فيما يتعلق بالدنيا: {أَلم يجِدكَ يتيمًا فآوى ووجدك ضالًا فهدى ووجدكَ عائلًا فأغنى} ثم ذكر في سورة ألم نشرح أنه شرفه بثلاثة أشياء: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر ثم شرفه في سورة التين بثلاثة أشياء أنواع: أقسم ببلده، وأخبر بخلاص أمته من الناس بقوله: {إلا الذين آمنوا} ووصولهم إلى الثواب بقوله: {فلهم أَجرٌ غيرُ ممنون} وشرَّفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع: {اقرأ باسم ربِكَ} وقهر خصمه بقوله: {فليدع ناديه سندع الزبانية} وتخصيصه بالقرب في قوله: {واسجد واقترب} وشرفه في سورة القدر بليلة القدر، وفيها ثلاثة أنواع من الفضيلة: كونها خيرًا من ألف شهر، وتنزل الملائكة والروح فيها، وكونها سلامًا حتى مطلع الفجر وشرفه في {لم يكُن} بثلاثة أشياء: أنهم خير البرية، وجزاؤهم جنات، ورضى عنهم.
وشرفه في الزلزلة بثلاثة أنواع: إخبار الأرض بطاعة أمته، ورؤيتهم أعمالهم، ووصولهم إلى ثوابها حتى وزن الذرة وشرفه في العاديات بإقسامه بخيل الغزاة من أمته، ووصفها بثلاث صفات وشرفه في القارعة بثقل موازين أمته، وكونهم في عيشة راضية، ورؤيتهم أعداءهم في نار حامية وفي ألهاكم التكاثر، هدد المعرضين عن دينه بثلاثة: يرون الجحيم، ثم يرونها عين اليقين، ويسألون عن النعيم وشرفه في سورة العصر بمدح أمته بثلاث: الإيمان، والعمل الصالح، وإرشاد الخلق إليه، وهو: التواصي بالحق والصبر وشرفه في سورة الهمزة بوعيد عدوه بثلاثة أشياء: ألا ينتفع بدنياه، ويعذبه في الحطمة، ويغلق عليه وشرفه في سورة الفيل بأن رد كيد عدوه بثلاث: بأن جعله في تضليل، وأرسل عليهم طيرًا أبابيل، وجعلهم كعصف مأكول وشرفه في سورة قريش بثلاث: تألف قومه، وإطعامهم، وأمنهم وشرف في الماعون بذم عدوه بثلاث: الدناءة، واللؤم في قوله: {فذلكَ الذي يدعُ اليَتيم ولا يَحضُ عَلى طعامِ المسكين} وترك تعظيم الخالق في قوله: {فَويلٌ للمُصلين الذينَ هُم عَن صلاتِهِم ساهون الذينَ هُم يُراءونَ} وترك نفع الخلق في قوله: {ويمنَعونَ الماعون} فلما شرفه في هذه السور بهذه الوجوه العظيمة قال: {إِنّا أَعطيناكَ الكوثر} أي: هذه الفضائل المتكاثرة المذكورة في هذه السور، التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، فاشتغل أنت بعبادة ربك، إما بالنفس، وهو قوله: {فصل لربك} وإما بالمال، وهو قوله: {وانحر} وإما بإرشاد العباد إلى الأصلح، وهو قوله: {قُل يا أَيُها الكافرون لا أَعبدُ ما تعبدون} فثبت أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها وأما كونها كالأصل لما بعدها فهو: أنه تعالى يأمره بعد هذه أن يكف عن أهل الدنيا جميعًا بقوله: {قُل يا أَيُها الكافرون} إلى آخر السورة ويبطل أذاهم، وذلك يقتضى نصرهم على أعدائهم، لأن الطعن علي الإنسان في دينه أشد عليه من الطعن في نفسه وزوجه، وذلك مما يجبن عنه كل أحد من الخلق، فإن موسى وهارون أرسلا إلى فرعون وأحد فقالا: {إِنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} ومحمد صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الخلق جميعًا، فكان كل واحد من الخلق كفرعون بالنسبة إليه فدبر الله في إزالة الخوف الشديد تدبيرًا لطيفًا، بأن قدم هذه السورة، وأخبر فيها بإعطائه الخير الكثير، ومن جملته أيضًا: الرئاسة، ومفاتيح الدنيا، فلا يلتفت إلى ما بأيديهم من زهرة الدنيا، وذلك أدعى إلى مجاهدتهم بالعداوة، والصلح بالحق، لعدم تطلعه إلى ما بأيديهم ثم ذكر بعد سورة الكافرين سورة النصر، فكأنه تعالى يقول: وعدتك بالخير الكثير، وإتمام أمرك، وأمرتك بإبطال أديانهم، والبراءة من معبوداتهم، فلما امتثلت أمري أنجزت لك الوعد بالفتح والنصر، وكثرة الأتباع، بدخول الناس في دين الله أفواجًا ولما تم أمر الدعوة والشريعة، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن وذلك أن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورًا على الدنيا، فليس له إلا الذل والخسارة والهوان، والمصير إلى النار، وهو المراد من سورة تبت وإما أن يكون طالبًا للآخرة، فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات وقد ثبت أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين: منهم من قال: أعرف الصانع، ثم أتوسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته، وهذا هو الطريق الأشرف، ومنهم من عكس، وهو طريق الجمهور ثم إنه سبحانه ختم كتابه المكرم بتلك الطريقة التي هي أشرف فبدأ بذكر صفات الله، وشرح جلاله، في سورة الإخلاص ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في الفلق، ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية في الناس، وعند ذلك ختم الكتاب فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة في كتابه المكرم هذا كلام الإمام ثم قال في سورة الفلق: سمعت بعض العارفين يقول: لما شرح الله سبحانه أمر الإلهية في سورة الإخلاص، ذكر هاتين السورتين عقبها في شرح مراتب الخلق على ما قال: {ألا له الخلق والأمر} فعالم الأمر كله خيرات محضة، بريئة عن الشرور والآفات، أما عالم الخلق فهو الأجسام الكثيفة، والجثمانيات فلا جرم قال في المطلع: {قُل أَعوذُ برَبِ الفَلق مِن شَرِ ما خَلق} ثم الأجسام إما أبدية، وكلها خيرات محضة، لأنها بريئة عن الاختلافات والفطور، على ما قال: {ما ترى في خَلقِ الرحمن مِن تفاوت فارجِع البصر هل ترى مِن فطور} وإما عنصرية، وهي إما جمادات، فهي خالية عن جميع القوى النفسانية، فالظالمات فيها خالصة، والأنوار عنها زائلة، وهو المراد من قوله: {ومِن شَرِ غاسقٍ إِذا وقب} وإما نبات، والقوة العادلة هي التي تزيد في الطول والعمق معًا، فهذه القوة النباتية كأنها تنفث في العقدة وإما حيوان، وهو محل القوى التي تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب، والاشتغال بقدس جلال الله، وهو المراد بقوله: {ومِن شَرِ حاسدٍ إِذا حسد} ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية، وهي المستفيدة، فلا يكون مستفادًا منها، فلا جرم قطع هذه السورة، وذكر بعدها في سورة الناس مراتب ودرجات النفس الإنسانية ولم يبين المراتب المشار إليا وقد بينها ابن الزملكاني في أسراره فقال: إضافة رب إلى الناس تؤذن بأن المراد بالناس: الأطفال، لأن الرب من: ربه يربه، وهم إلى التربية أحوج وإضافة ملك إلى الناس تؤذن بإرادة الشباب به، إذ لفظ ملك يؤذن بالسياسة والعزة، والشبان إليها أحوج وإضافة إله إلى الناس تؤذن بأن المراد به الشيوخ، لأن ذاته مستحقة للطاعة والعبادة، وهم أقرب وقوله: {يوَسوسُ في صدورِ الناس} يؤذن بأن المراد بالناس: العلماء والعباد، لأن الوسوسة غالبًا عن الشبه وقوله: {مِنَ الجِنَةِ والناس} يؤذن بأن المراد بالناس: الأشرار وهم شياطين الإنس الذين يوسوسون لهم والله تعالى أعلم. اهـ.